تُعد قضايا الايمان وقضايا الإلحاد، من القضايا غير حديثة النشأة، فهي ظاهرة قديمة، ولكن لعدة عوامل مرتبطة بالتقدم التكنولوجي وتطور الوسائل الإعلامية، نرى هذه القضايا تطفوا بين حين وآخر على السطح.
وقبل الخوض في هذه المسألة، يجب أن نعلم أنه بواسطة البرهان يحق لكل إنسان أن يأخذ لنفسه مجموعة من الأفكار مهما كانت هذه الأفكار ومهما كانت طبيعتها ما دامت لا تؤدي الى زعزعة التعايش المجتمعي، وما دامت باقية في نطاق التنظير والفكر والمعرفة، فالانسان حرّ فيما يتبناه ويعتقده من أفكار سياسية، إقتصادية، دينية، إجتماعية، ولا يحق لأحد أن يناقشه فيها.
فيجب على الجميع احترام حرية التفكير وحرية التعبير عند الآخرين، نعم إحترام الآخرين لا يعني أننا نقبل بأفكارهم ومعتقداتهم، لكن لا بد أن يتمتع بحصانة شخصية وحصانة إجتماعية.
نعود الى قضية الإيمان والإلحاد اليوم، إذا كانت القوانين الوضعية والدينية تنص على حرية التفكير وحرية الإعتقاد عند الإنسان، فلماذا إذاً تُثار هذه الضجة حول هذه المسألة؟
في الحقيقة، الضجة التي أثارتها هذه المسألة تعود لأسباب متعددة، منها: أننا كشعوب غير مبرمجين على قبول الآخر، فعندما يأتي شاب بفكر منحرف مباشرة نتجه الى إقصائه وإلغائه دون محاولة إستيعاب وضبط فكره، لذلك جاءت النتائج كارثية لرفض مبدأ إحترام حرية الاعتقاد والتعبير، فقد عمدت مجموعة كبيرة من العلماء الحقيقيين في دولنا للمهاجرة الى دول أخرى، وأصبحوا ينتقدوننا من الخارج.
المسألة الثانية، أن قضية الإلحاد أو قضية عبادة الشياطيين وغيرها من المسائل التي برزت في الآونة الأخيرة على الصعيد الاجتماعي، هي في الحقيقة تخالف الاعتقاد السائد اليوم الموجود في دولنا، ونحن كدول إسلامية بشكل عام لا نقبل أن تأتي مجموعة من الأشخاص وتعرض أفكار معينة تستقطب الحاضنة للدين الإسلامي، وفي بعض الأحيان يتم قمع وإقصاء هذه المجموعة، ولو تمت ضبط هذه الحالات ومعالجتها كان أفضل من قمعها وإقصائها.
خلاصة المحض أنه لا بد منا أن نقبل بمبدأ التغاير، سواء التغاير الطائفي أو الديني أو غيره، لأن عدم القبول بمبدأ التغاير يؤدي في النهاية الى التقاتل والتشاجر، وبالتالي سيؤدي ذلك الى وقوع المجتمعات في خلل قد يصل بها الى درجة الأفول والزّوال.
- الدخول في قضية الإيمان والإلحاد
متى نستخدم البرهان؟
كيف يمكن أن ندخل الى قضية الإيمان والإلحاد على هذا النحو الموجود اليوم بكثرة بين الناس عامةً سواء عن طريق مواقع التواصل الإجتماعي أو التواصل الشخصي؟
أولا نتطرق الى البرهان، متى نستخدم البرهان؟ متى نحن نصل الى حالة، نقول حينها أننا بحاجة الى برهان في هذه المسألة؟
هنا لا بد من التفريق بين بعدين:
- البعد الأول هو القناعة الشخصية: أي الأفكار التي نعتقد بها، هذا البعد ليس بحاجة لإقامة البرهان عليه، نعم إذا وُجد له برهان فهذا أمر جيد، وإلا فالانسان ليس مطالب بدليل وبرهان على قناعاته الشخصية. فعلى سبيل المثال عندما يؤمن شخص بأن النار باردة، فليس لأحد أن يعترض عليه أو يطلب منه برهان على قناعته الشخصية، إذ أن القناعات الشخصية هي حق طبيعي لكل فرد، بِغَض النظر عن مدى توافق هذه القناعات مع العلم والمنطق والواقع.
- البعد الثاني المرتبط بمخاطبة العقل الإنساني: عندما يريد شخص أن يكلِّم الاخرين ويقنعهم بأمر ما، أو يرسّخ في أذهانهم معلومة معينة، فهو مضطر هنا الى استخدام البرهان، لأنه في هذه الحالة يتعامل مع دائرة العقل والعقلية الإنسانية.
إذاً، عندما نريد أن نتكلم عن وجود الله سبحانه وتعالى وأن نقنع الآخرين بهذه القضية، فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن نبرهن على وجود الله سبحانه وتعالى، وإما أن نبرهن على عدم وجوده سبحانه وتعالى، وإلا إذا لم يكن عندنا برهان فلا مجال لهذا البحث وقد انسد باب الاقناع نهائياً.
البروفيسور “ريتشارد داوكينز”
“ملحد” أم “لا أدري”؟
“ريتشارد داوكينز” هو شخصية قوية ورقم صعب في عالم الإلحاد، البعض يسميه أبو الإلحاد المعاصر، له العديد من المؤلفات المؤثرة جداً في مضمار الالحاد -والتي تُرجمت لما يناهز الثلاثين لغة- ومن أهمها: كتاب وهم الإله.
“ريتشارد” ليس عدو للإسلام، ولكنه مع العلم، أي أنه طالما العلم لم يكتشف الإله فهو لا يعتقد به، فهو يتكلّم عن الأديان بشكل عام وينتقد الكتب المقدسة، سواء في العهد القديم والعهد الجديد.
هناك مقابلات متعددة له، منها المقابلة التي أجرتها قناة الجزيرة إنجليش معه في الجامعة، وكان الأخ مهدي حسن هو الذي أدار هذا الحوار بحضور مجموعة من الأشخاص، الأخ مهدي حسن سأله سؤال:
هل تعتقد أن الفكرة بين وجود الله، وبين فكرة الله وفكرة العفاريت والجن، هي شيء متساوي؟
Do you see an equivalence between the idea of God and the idea of ferry and a leprechauns?
فأجاب: الدليل عليهما ضعيف.
The evidence for both is equally poor
ماذا يعني ضعيف؟ يعني الدليل موجود، ولم يقل الدليل معدوم، لأنه إن لم يكن له دليل فتبقى هذه أفكار شخصية مرتبطة به فقط.
والأجمل من ذلك أنه في المقابلة عندما سُئِل: هل عندك برهان على عدم وجود الله؟
فإنه بشكل صريح يقول: لا أحد يستطيع أن يثبت أنه غير موجود.
إذاً لماذا هذه الضجة ولماذا تسيء وتشوش فكر مجموعة كبيرة من الشباب وأنت لاتملك الدليل؟
فالبروفيسور “ريتشارد” يقول أن الدليل ضعيف، ولا يمكن أن يأتي ببرهان يثبت به أن الله عز وجل غير موجود، إذاً هذا رأي شخصي ليس إلا.
في نهاية المقابلة سأله أحدهم: إذا جاءك الإله على سحابة، هل تؤمن أنه موجود؟
فأجاب “ريتشارد”: نعم إذا جاءني هكذا سأؤمن به.
يتضح من خلال هذا المقطع من المقابلة أن أمثال “ريتشارد داوكينز” في الحقيقة ليسوا ملحدين، وأقصى ما يمكن أن نصفهم به هو أنهم لا أدريون، يعني لا يدرون أن الله موجود أو غير موجود؟ إذ أنه لا دليل عندهم على عدم وجود الله سبحانه وتعالى.
إذاً بالنتيجة: عندما نريد أن نطرح قضية على العلن لإقناع الطرف الآخر بوجود أو عدم وجود شيء، يجب أن نتسلّح بالبرهان فقط، وإلا فمهما كان الشخص عنده طرح جميل وأسلوب شيق إلا أنه لا يملك البرهان، فستبقى الفكرة المعينة على صعيد الإعتقاد والقناعة الشخصية ليس إلا.