نُشرت
يشارك

وقفة مع القصيدة اليائيّة من ديوان أمير التصوّف

الشهود…الكشف…الحجاب…السير، من أبرز المصطلحات التي يمكن مشاهدتها في فكر الأمير المكزون، إذ أنّها خلاصة الوجود وصورته، كلماتٌ يمكن إحصاؤها، لكن لا يمكن شرحها، فمهما بلغ المرء فيها اجتهاداً، يبقى عاجزاً عن هضمها حتى بلامس كيانه جقائقها،  وهذه هي رحلة المكزون الشهوديّة التي أراد من خلالها إيصال رسالتها إلينا، مؤدّباً إيّانا بالمحضر الإلهيّ، هذه الحضرة التي تستغرقنا، ونعيش قيها ونحيا بنسائمها، فالإنسان بلا نَفَس جثّة هامدة، ونحن خارج حضور ليلى نتلاشى، أدب المحضر، يطلب أدب الحاضر، أدب الحاضر يطلب أدب الحضور، أوّل هذه الآداب الانغماس بالحضرة التي تستغرقنا مكاناً وزماناً ووجوداً، يصدح بها أمير التصوّف المكزون:

وَهوَ لي فَوقٌ وَتَحتٌ وَوَراً              وَأَمامٌ وَجَليسٌ عَن يَدَي

الحضور المطلق لا ينسجم مع الإنشغال والاشتغال بالأغيار، الحضور المطلق ينافي الغير، الإنسان الساعي إلى القدس الربوبيّ يتبرأ من كلّ التفاتٍ إلّا إليه، ومن كلّ توجّهٍ إلّا له، براءةً يعضدها بموالاةٍ مطلقة، موالاةٍ تقرّبه زلفى للحبيب الأقدم:

وَلَهُ مِنّي وَلاءٌ وَبَرا                     في إِباءٍ حُبُّهُ مِن أَبَوَي

دستوره عندما يجلجل في ركبنا من فم نورٍ على نورٍ على نورٍ… ففي هذا النور خلاص الورى من كدر كثرات الوجود، التمسّك به حقّ على أهل الهوى، ومن رام الهاوية فهو منه برٍ، محمّد السيد الأمين العالي شأنه، سرّ أسرار الورى، مصدح النور، حروفه كلمات نحن أبياتها متى انطلقت إلى غيب الوجود، والمكزون عارف باطن أسرار محمّد وبظاهرها أخذ بالمرقاة:

مُرسِلُ النورِ إِلى أَبياتِهِ                  داعِياً يُرشِدُهُم مِن بَعدِ غَي

وللوصول إلى الحبيب، يطرح المكزون مسألة الموت الاختياريّـ حيث يميت السالك ذاته عن كلّ شيءٍ إلّأ عن الحقّ تعالى، وموته يعني غيابه عنها، وإشخاص الظهور فقط للحقّ، والموت الاختياريّ يتحقّق للإنسان السالك في هذه الحياة قبل أن ينتقل منها إلى عالمٍ آخر، فإذا وصل إلى موته الاختياريّ فقد جنى ما جناه من معرفة الجود والوجود:

هَكَذا إِن شِئتَ أَن تَحيا فَمُت             أَو فَعِش مِيتاً شَقِيّاً يا غُبَي

وعند رفع الحجب في الموت الاختياريّ يصل السالك إلى حقيقتي النفيّ والإثبات المعبّر عنها: لا إله (النفي) إلّا الله (الإثبات)، ويدرك أنّ ما رآه بعينه كان مظهر الحقّ، وما سمعه من كلام كان تجلٍّ له، وعندما وصل بسلوكه نفى ما رآه وسمعه وأثبت الذات الغيبيّة لا لا تدرك بحواس ولا تُعشق بقلب، وإنّما يفنى فيها عن كلّ شيء، ليصبح الإنسان عندها مظهر الحقّ تعالى:

فَلِذا أَصبَحَ إِثباتي لَهُ                     بِعَياني نَفيُ ما في ناظِرَي

وَالَّذي شاهَدتُ مِنهُ ظاهِراً               باطِناً أَصبَحَ بي في مَظهَرَي

لكنّ السرّ يبقى في قلب السالك الذي أضحى عارفاً لا يبوح به لأنّه ليس من جنس الأصوات، ولا من نوع الكلمات والألفاظ، فيختزله في قلبه ليبقَ محلّقاً به:

وَأَراني أَنَّ ما شاهَدتَهُ                   عَلَمٌ ظِلٌّ لِما في عَلَمَي

وَلَقَد باسَطَني في خِلوَةٍ                  أَصبَحَ البُسطُ بِها في قَبضَتَي

وبعض الوصول وبلوغ المعرفة يعيد الأمير المكزون تذكيرنا بأدب الحضور، ويقدّم لنا دستور عملٍ لنحيا فيه:

وَصَلاةَ اللَيلِ لا تَسهُ عَنِ ال            فَرضِ فيها فَهيَ القُربى إِلَي

وَبِصَونِ السِرِّ صُم عَمرُكَ لي          وَاِخفِني قَبلَ الدُعا عَن داعِيَي

وَاِقصِ مالاً ما تَزَكّى دَهرَهُ             بِالغِنى بي عَنهُ كَي تَدنو زَكِي

وَإِذا هاجَرتُ مَن هاجَرَني               بِالَّذي أَظهَرتَ لي زِيّاً بِزِي

وَاِجفُ مَن لي وُدَّ نَدّاً نَصَبوا            وَتَداعوا هُبُلاً أُعلي عَلَي

وَرَأَوا تَحريمَ ما حَلَلتُهُ                   وَاِستَباحوا حُرَمي في حَرَمي

وَعُيونَ السوءِ لا تَقرَ بِها                فيها ما يَشوِيَ الأَكبادِ شَي

وَحَرامَ المالِ لا تَسعَ لَهُ                  فَبِهِ الكانِزُ يُكوى أَيَّ كَي

وَاِرفُضِ البِدعَةَ وَالسُنَّةَ                  لا تَعدُها عَدواً تَلَظّى بِلُظى

هذا هو المكزون في تجربته الشهوديّة التي يروينا بها، لتصنع منّا الإنسان السالك والكامل، ليؤسّس للبشريّة خير حاضرٍ ومستقبل…………….. يتبع

print